كلمة سيادة المطران ميشال عون راعي ابرشية جبيل المارونية في أمسية ” لقاء ” حول كتاب
” كتابُ أبي” لمؤلفه عماد يونس الفغالي وذلك مساء السبت في ١٧ شباط ٢٠٢٤ على مسرح انطش مار يوحنا مرقس _ جبيل .
” أيها الحفل الكريم،
“كتابُ أبي” أراده الصديقُ العزيز الأستاذ عماد يونس الفغالي “تحيةً منارة” لوالدٍ حبيب غاب عن دنيا البشر ودخل المجدَ السماويَّ ليغيب أبدًا في الحضور الإلهيّ. رحل عن هذا العالم بعد مسيرةٍ مُشرِّفةٍ ليلقى نصيبَ الأبرار الذين أفنَوا حياتَهم في الحُب والعطاء والذين عبِقت مسيرتُهم الأرضية بأريج القيم والفضائل. إنه العزيز يونس الفغالي الذي غادر عائلته ومُحبيه، غادرهم حاملاً في قلبه عاطفةَ المحبة التي ستحوّله في عليائه شفيعًا لهم عند الآب السماويّ يستمطر عليهم النِعمَ والبركات التي ترافقهم وتحميهم.
نلتقي هذه الأُمسية بروحيّةِ الشكر لله على عطاياه السنيّة وبروح التقدير وعرفان الجميل لرجلٍ، زوجٍ ووالدٍ، بذل الثمين والغالي طيلة حياةٍ عنوانُها التضحية والحب والحفاظ على القيم.
تعرّفتُ إليه منذ قدومي راعيًا إلى أبرشية جبيل الحبيبة، فكانت معرفتي القديمة لشقيقه الخوري أنطوان الفغالي، رحمه الله، أستاذي في المدرسة الإكليريكية في غزير، وفي مدرسة الحكمة في جديدة المتن، منذ سبعينيات القرن الماضي، واحترامي الكبير له بسبب ما انطبع في وجداني من صورةٍ بهيّة لهذا الكاهن في مثال حياته الكهنوتية، حافزًا لأتقرّب من عائلة شقيقه يونس، ولأتعرّف عن كثب على هذه العائلة الفغاليّة الكريمة التي تتميّز بإيمانها الشاهِد وبالتزامها الكنسيّ العميق اللذين يُعبّران عمّا طبعه الخوري أنطوان من أثرٍ طيّب في حياة عائلته التي أضحت عائلةً كهنوتية حقيقية متمسّكة بالإيمان وبالقيم.
أتذكّرُ الأستاذ يونس بابتسامته المرسومة على محيّاه، وبصفاء وجهه الذي يعكسُ سلامًا حقيقيًا ينبعُ من علاقته الإيمانية بالرب يسوع التي يعيشها في الكنيسة وفي التزامه بكافة احتفالاتها ونشاطاتها. فما أن تحدّق إليه حتى تكتشفَ في نظراته الثاقبة عمقًا يعكس طيبة الإنسان الكامن فيه، وانفتاحًا يجعلُه قريبًا بنصحه وإرشاده من جميع أبناء قريته، تدفعُه محبةٌ كبيرة يستقيها من إيمانه الراسخ بربّه ومن القِيَم التي ورثها عن آبائه وأجداده.
بدأ دراسته في فغال في مدرسة مار مخايل الرعائية، ثم في مدرسة مار ساسين، أمّا دروسه النظاميّة فتابعها في مدرسة الأخوة المريميّين في البترون ثم في جونيه حتى الصفّ النهائيّ. تميّزت مسيرتُه التعليميّة بالجديّة والتفوّق، فتبوّأ المركز الأوّل في لبنان في الامتحانات الرسميّة المتوسّطة حسب البرنامجين اللبنانيّ والفرنسيّ، وقدّمت له السفارة الفرنسيّة منحة كاملة لمتابعة دروسه الثانويّة والجامعيّة.
وبعد نيله الإجازة من كليّة الحقوق في الجامعة اليسوعيّة في بيروت، التحق بالجمارك اللبنانيّة سنة 1955. وارتقى في سلّم الوظيفة حتى رتبة مراقب أوّل في الجمارك، وتبوّأ عدّة مراكز مهمّة كان فيها مثال الموظّف الذي يقوم بواجبه بروح المسؤولية والأمانة. وعندما فُصلت إدارة السيّارات والآليّات عن مصلحة المعاينة، وأُسّست مصلحة خاصّة بها، سُلّمت رئاستُها إلى الأستاذ يونس الذي نظّمها وأرسى لها القوانين الخاصّة، واستمرّ فيها حتى تقاعده عام ١٩٩٥ بعد أربعين سنة من الحياة المهنيّة.
وفي عائلته الصغرى كان الأستاذ يونس مثالَ الزوج المخلص المُحبّ والوالد المضحّي الساهر على شؤون الأولاد والعائلة. ومن ثمار عنايته وسهره الدؤوب مع زوجته الفاضلة الأبناء الذين يفخر بهم وقد حصّلوا الشهادات العالية في مجال الآداب العربية والهندسة والطب، وأسسوا العائلات المسيحية ناسجين على منوال السلف الصالح، وهم في الوقت عينه مع عائلاتهم مثالٌ في الالتزام الكنسيّ وفي الشهادة المسيحية التي يقدّمونها بعيشهم لإيمانهم، وللقيم الروحية والإنسانية والاجتماعية.
فالشكر لله على رسالة الأستاذ يونس الخصبة بالحب والتفاني، وعلى حياته التي عرف فيها كيف يكسب بالمحبة واللطف ثقة الجميع، فبادلوه المحبة بالمحبة. إنه، بشهادة الكثيرين، الرجل الذي تفانى في كل ما قام به، والرجل المُحترِم والمُنفتح على الأفكار الجديدة، ما جعله محاورًا لبقًا يُصغي بعمقٍ إلى آراء الآخرين.
شكرًا أستاذ عماد على هذا الكتاب الثمين الذي أردتَ من خلاله تكريم الوالد الحبيب، والذي يبقى شهادةً حلوة للعائلة وللأحفاد ولكل عارفيه، ويبقى في الوقتِ عينهِ ذكرًا قيّمًا لإنسانٍ أعطى الكثير بمثله وأعماله ومواقفِه التي تَنِمُّ عن قلبٍ كبيرٍ يتركُ، بالرغم من غيابه، أثرًا بالغًا في وجدان الكثيرين. وشكرًا. “